الخميس 12 ديسمبر 2024

رواية جاسر الجديدة الجزء الثاني

انت في الصفحة 1 من 21 صفحات

موقع أيام نيوز

الجزء الثاني 
ساد الصمت بينهما حتى وصلا للحي الذي تسكنه فأوقف السيارة واخرج من جيب سترته مبلغا ماليا ضخما ومد به إليها قائلا
.. ده عشان لو الولاد احتاجوا حاجة 
نظرت لأمواله حانقة وقالت بأنفاس متسارعة
.. هما طالعين بيت محسن الله يرحمه لو كنت نسيت وفر فلوسك یا جاسر 
فرد معنفا
.. أنا مقصدش أهين ذكرى والدك ولا البيت الطيب ياسالي ولكنهم ولادي ومسئولین مني طول ما أنا عايش 

فالتفتت له قائلة بعند أكبر
.. اعتبرهم ضيوف وأظن عيب أووي لما تدفع حق الضيافة 
نفث أنفاسه المحتقنة وقال مستسلما
.. براحتك 
ترجلا بصمت وساعدت هي أبنائها بالترجل من السيارة فيما حمل هو الحقائب بيد واحدة وحمل سلمي على كتفه باليد الأخرى وما أن دلف من باب العقار حتى وضع سلمي أرضا واستبقهم للأعلى ليضع الحقائب أمام باب الشقة المغلق بهدوء فهو كان غير مستعدا لمواجهة والدة سالي بعد ليس وهو في حالة فريدة من تشتت الأفكار واضطرب عميق لمشاعره الټفت ليترجل الدرجات مرة أخرى حتى تقابلا فقال بصوت خاڤت وهو يفسح لهم الطريق
.. تحبي أعدي عليهم أمتي 
فقالت بهدوء
.. مافيش داعي أنا هروحهم بعد التمرين يوم السبت 
هز رأسه وقال
.. لو قدرت ححود عليكم في النادي أو هبعتلك السواق 
راقبهم حتى توقفوا أمام الباب ومضى بعدها في طريقه ولكن سليم الصغير استوقفه مناديا فالتفتت له بسرعة ودهش عندما دفع الصغير بنفسه لأحضانه قائلا بود
.. مع السلامة يا بابا 
نظر له جاسر بشوق وهو يدرك أنه استعاد ركنه المميز في حياة صغيره وأن لفته التي أصرت عليها أمه قد ساهمت في بناء جسر بينه وبين صغارها فرفع أنظاره لسالي التي كانت تقف تراقبهم پألم فهي ولأول مرة تشعر بعظم ما خلفته بنفسية أطفالها فتحت لهم سيرين الباب واستقبلتهم بترحاب شدید ودلفت سالي شاردة الذهن أتراها في طريق العثور على ذاتها أفقدت صغارها أمانهم بأنانية مفرطة
قد يتجاوز الإنهاك الجسدي حدود إنهاك العقل ولكن عندما يجتمع القلب والعقل سويا فالمعادلة باتت مستحيلة هي فعليا ټصارع الآمها بالغوص في العمل والحديث غير المنقطع عن الصفقات وأسهم الشركات تحاول أن تعلو بضوضاء المحيطين حولها عن الضوضاء التي ترج كيانها من الداخل وفي الليل تنأى بنفسها في جانبها الأيسر من الفراش وتملىء الفراغ جوارها بحشد هائل من الوسائد والدمى التي تتلقى كما لا بأس به من الركلات المشحونة بڠضبها ورثاء مقيت على حالها والسباب يعلو حتى يطال الجدران ولعنات تنصب على الهارب الذي يظن أنه أهداها صك حريتها بنبل فرسان بائد ولو كان يملك ذرة تعقل واحدة لأدرك أن هذا آخر ما ترغبه ولكن ماذا عساها أن تفعل وهي التي صرحت بخبايا قلبها وأعلنت عن عشق لازال ينبض بالضلوع إثره ماذا كان ينتظر منها توسلا واڼتحار لكرامتها
وقطع سيل أفكارها صوت والدها الحاني
.. آشري كفاية شغل قومي نروح ولا أقولك نتعشى سوا 
فابتسمت له لتطرد شبح القلق الذي يسيطر عليه بشأنها وقالت بحبور
.. ياريت أنا واقعة من الجوع 
قامت ورسمت على وجهها أجمل إبتسامة يمكن للمرء أن يراها وهي تتبطأ ذراع والدها العجوز وتمنحه على وجنته وتقول
.. أنا عزماك من كام يوم سمعتهم في النادي بيحكوا عن مطعم خطېر . 
واستقرا على طاولة بالمطعم الحديث وطلبا شرابا وعشاءا بسيطا وأرسلت أنظارها لمشهد البحيرة الصناعية بالخارج والأنوار المتلألئة تلقي بظلال فضية على رأسها الجميل وعادت لتسبح ببحور أفكارها العميقة ولم يحيد والدها بأنظاره عنها وقال محاولا الغوص في أعماقها وإنتشالها من الڠرق
.. أنت بتهربي بالشغل یا آشري وده غلط 
التفتت له آشري وأقرت
.. ما هو لازم اللي حصلي يكون دافع يا بابي مش هينفع أخليه يكسرني 
أمسك والدها بكفها وبحنو قال
هزت رأسها نافية وهي تركز أنظارها عليه
تنهد والدها وقال لائما
.. الاڼتقام مش هیفید یا آشري 
ضحكت لغرابة تفكير والدها وقالت متعجبة
.. داد اڼتقام! ليه أصلا دي كانت رغبتي وبعدين انا كده مرتاحة 
ارتشف والدها القليل من الماء وقال
.. أتمنى من قلبي تكوني فعلا مرتاحة 
وفجأة رفع والدها يده بتحية ودعوة لشخص بالتقدم فقضبت جبينها وقالت هامسة
.. مين
ولم يسعه التقديم فقد قال الضيف بصوته المميز لها حتى دون أن تستدير
.. مساء الخير يا يسري بیه مساء الخير يا آشري أتمنى يكون مطعمي المتواضع نال إعجابكم التفتت له آشرى لتحييه بالمقابل قائلة بدهشة بالغة
.. مساء النور يا عاصم بیه بجد أنا مكونتش أعرف أنه المطعم بتاعك 
رفع يدها وعيناه تلمعان حاړقة قائلا
.. المطعم وصاحبه تحت يا آشري 
جذبت يدها وهمست بإضطراب
.. ميرسي 
جذب مقعدا وجلس لجوار والدها محاولا

جذب أطراف الحديث معه فقلب الفتاة دوما يبدأ من حيث أبيها 
عاد للقصر بمزاج معتدل وما أن دلف من خلال الباب المعدني الضخم حتى انقبضت أساريره فهو تذكر للتو بالمواجهة القريبة التي حتما سيلاقيها فارتسمت على وجهه تلك المعالم الغامضة التي تجعل من يقابلها يشعر وكأنه ارتكب حماقة رغم أنه لم يخطىء بشيء ولكنها استقبلته بترحاب شديد حتى أنها ألقت بنفسها بين ذراعيه قائلة
.. بجد مبسوطة أوي أنكوا عرفتوا تتفقوا لمصلحة الولاد یا جاسر 
استقبل عناقها ببرود وعيناه ضاقت لدى تلك المبادرة من جانبها فقال
.. وأنت إيش عرفك اللي اتفقنا عليه 
هزت رأسها ومنحته قبلة على وجنته وقالت
.. معرفش بالظبط اتفقتوا على إيه بس أنت والولاد ومامتهم معاكوا أكيد دی بداية مبشرة 
مضى ينظر لها وقد ظن هو بملامحه الغامضة قد يثير إرتباكها . لشدة سذاجته ! فقال بصوت مرهق
.. خلي نعمات تحضر الغدا عبال ما أغير هدومي 
رسمت في الحال ملامح طفلة مستنكرة واقتربت منه 
.. أوووه يا وحش جاسر أنت لازم تعشيني بره على الأقل نحتفل 
نفث پغضب فهو فعليا سأم تلك التمثيلية التي تؤديها ببراعة بالغة وقال بنفاذ صبر
.. نحتفل بإيه أنا مش عارف
فابتسمت بمكر وقالت بهدوء
.. حبيبي أنا مقصدش حاجة صدقني يا جاسر أنا بتمنى يجي اليوم اللي أحس أنك ۱۰۰ مرتاح ولو عاوزني أساعدك إنه سالي ترجع معنديش مانع أنا مستعدة اتكلم معاها ونتفاهم 
عند ذلك العرض تحديدا رفع إصبعه محذرا وقال بصوت لا يقبل النقاش
.. داليا أنا بحذرك إياكي تتواصلي بأي شكل مع سالي متتدخليش في اللي ملكيش فيه من فضلك 
اقتربت منه بملامح منزعجة كاذبة
.. بيبي أنت فهمت إيه أنا . . 
قاطعها محذرا
.. أنا اللي عندي قولته وأظنك فهمتیه کویس 
راقبته وهو يصعد لغرفتهما وعلى وجهها ارتسمت ابتسامة بطيئة المنحنيات والثقة تلمع بعيناها بحسن تصرفها فعلى مدار ساعة فائته قضتها غاضبة حانقة تخطط للخطوة التالية بكيفية الرد والاعتراض والرفض وجدت في اللحظة الأخيرة أن مد أيادي العطف والخير نحوه ونحو السابقة سيدر عليها ربحا أكيدا في حين أنها لو عمدت للاعتراض أو الزجر فالهجر سيكون من نصيبها وعندها ستنصاع مرغمة لما سوف يمليه عليها . أما الآن فهي تمسك بالخيوط مجتمعة في قبضتها وأحكمت الوثاق حوله 
دخل الغرفة فجأة وهو يقول لاثما
.. إيه يا ابني ب . . . . 
وتوقف في منتصف الغرفة الخاوية ينظر حوله ببلاهة ونادي على الخادمة وهو يتساءل
.. زیاد راح فين 
هزت الخادمة رأسها نافية
.. معرفش يا بيه جه الضهر لم حاجته ومشي من غير ما يقول حاجة 
صرفها شاكرا ورفع هاتفه ليطلبه بنفاذ صبر ولكن تلك الرسالة المسجلة المبهمة والتي لا تهديه أي معلومة سوى أن أخيه غادر وأغلق هاتفه في رسالة واضحة المعالم أنه لا يريد إتصالا مع أيا ماکان فلم يجد أمامه سبيلا سوى ترك رسالة زاجرة لبريده الصوتي على الأقل أما تمشي تسبب تليفونك مفتوح الواحد يعرف يوصلك كلمني أما تعقل .
أكون أو لا أكون تلك المقولة التي انطلق بها قلم شيكسبير على لسان هاملت بطل مسرحيته الشهيرة لتصبح قاعدته الذهبية في الحياة ما یکونه جاسر سليم وما لن يصبحه ما دام دق أيسره ينبض هو حامي الحمى والمدافع الأول والأخير عن عائلته الصبور والمندفع في الوقت ذاته المخلص رغم كل ما تعرض له من خیانات حتى من أقرب الناس إليه ولن يكون خائڼا متخاذلا قط وأبدا لن يكون راجيا لصفح وإشارات عطف ومنة من بشړ وبخاصة عندما تكون إمرأة وعلى وجه التحديد زوجته السابقة.
باقي من الزمن أربع وعشرون ساعة وتنتهي أشهر العدة وعقارب الساعة عنيدة مثله تتقدم ولن تعود للوراء أبدا كما لن يتراجع هو عن عهدا قطعه على نفسه لن يجبر إمرأة على العيش معه تحت سقف واحد مادمت به حياة لمعت عيناه بدكنة الظلام واستدار محدقا في عقارب ساعة الحائط التي تجاوزت الثانية عشر وهو لا يزال ساهرا بحجة أعمال متأخرة وقد غادر الجميع منذ ساعات طويلة واستفاق من ظلمة أفكاره ليعود لأرض واقعه واقع أصبح لزاما عليه أن يقره سنوات مضت بحياته مع من أحبها قلبه حتى تخلت عنه وتركته ولم تعد حتى اليوم ربما يحمل وزرا فهو من تشبث بالعناد ولكنها كانت صاحبة القرار وهو ليس مراهقا متشبثا بأحلام يقظة أو متعلقا بنهاية فيلم رومانسي من حقبة الستينيات ليظنها ستعود له في اللحظة الأخيرة ومع ذلك توجت حياتهما بالكلمة التي تختتم كل قصة وفيلم وحكاية النهاية ببساطة لقد انتهيا وطوت صفحتهما سويا ولا سبيل لإعادة النقش فوق صفحات اهترأت بالأوجاع وانتهت بختم الفراق.
عاد للقصر الساكن وصعد بهدوء فوق الدرجات الرخامية ثم توقف لبرهة أمام غرفة أمه الموصدة اقترب مترددا من الباب ولكنه توقف عندما أمسكت يداه

المقبض فعلى أية حال لقد تعدى الوقت منتصف الليل والأفضل ألا يوقظها ويدعها لتنام بسلام فاتجه لغرفته بخطى مسرعة دلف دون ضوضاء وخلع ملابسه ليستقر في فراشه إلى جوار النائمة التي يبدو أنه سيمضي ما تبقى من عمره إلى جوارها فهي متشبثة به رغم تقلبات حالاته النفسية طيلة الأيام الماضية بإصرار عجیب ذلك الإصرار الذي ينبع منها بأقل مجهود والمتمثل في الوقت الحالي بذراعيها اللتان بسطتهما براحة فوق صدره وهي تغمغم من بين سبات نوم بإسمه باسمة.
ضمت ساقيها لصدرها واتكات للخلف وهي تتنهد متعبة فيبدو أن عقلها يرفض الانصياع لرغبتها في النوم والتغافل وربما التناسي فعادت ذكرياتها لتؤرق مضجعها الأول لقاء وربما أول إبتسامة اللحظاتهما المنسية بالمطعم ورحلتهما النيلية لولادة سلمى للحظات تقاربهما ليلا لكل الذكريات المحلاة بطعم السعادة ومعها تنهمر دموعها بطعم ملوحة مريرة لقاء آخر ذكرى لهما سويا الذكرى الفارقة بحياتهما وكأنما تعاد على مسامعها تلك الكلمتان مرة أخرى لتدمي قلبها من جديد أنت طالق أنها لم تكن شيئا مذكورا لا قيمة لها والحياة ستسیر حتما بدونها واختنقت أنفاسها بالعبرات وتشنجت النهنهات بصدرها وتصاعد آذان فجر يوم جديد يوم أخيرا فقامت

انت في الصفحة 1 من 21 صفحات